مأساة النازحين في لبنان: بين العجز المحلي والضغوط الدولية
أ.د ماريز يونس
أستاذة علم الإجتماع في الجامعة اللبنانية
بعد مرور شهر على نزوح أكثر من مليون ومئتي ألف شخص نتيجة الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة على لبنان، يستمر الوضع الإنساني بالتدهور بسرعة، وسط شلل مؤسسات الدولة وغياب التنسيق والتمويل الدولي. فمع اشتداد الحرب واستهداف مناطق واسعة، أصبح ثلث لبنان تقريباً غير صالح للعيش، مما أدى إلى تدفق هائل للنازحين نحو مناطق محددة مثل بيروت والشمال والجبل وصيدا. وعلى الرغم من الجهود الإغاثية المبذولة، إلا أن ضغط النزوح الهائل فاق كل توقعات وقدرات الاستيعاب. فبحسب تقرير منظمة الهجرة الدولية فإن أكثر من 31,000 عائلة موزعة على 820 مركز إيواء جماعي، معظمها مكتظة بشكل كبير، يعيش فيها النازحون ظروفًا سيئىة نتيجة نقص المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية، سيما الصحية منها، مثل أدوية الأمراض المزمنة لدى بعض الفئات الأكثر ضعفا كالمسنين والأطفال. فضلًا عن غياب النظافة العامة والمرافق الصحية.
أما في الجبل، فتتضاعف معاناة النازحين مع بداية الشتاء جراء النقص الحاد للأغطية والملابس الشتوية ووسائل التدفئة، وفي ظل غياب أي خطة استباقية لمواجهة البرد القارس. وهو ما يهدد بانتشار الأمراض نتيجة الاكتظاظ وخطر العدوى السريعة، فضلًا عن نقص النظافة وعدم توفر أدوات التعقيم “اللي صار معنا بالبرد بيقطع القلب. وهو ما عبر عنه أحد النازحين في إحدى مراكز الإيواء بالقول “البرد قاسي، وما معنا غير بطانية وحدة، عم نتشاركها أنا وولادي الخمسة. وما في إلا 3 حمامات لأكتر من 100 عيلة. شو بدك تعمل؟ ما في مية كافية ولا أدوية لأولادنا، وعم ننام على الأرض من دون أغطية كل يوم حدا من الأولاد بيمرض، والدواء مش موجود”
العيش في العراء: مأساة مستمرة
بعض النازحين الذين نزحوا فجأة من بيوتهم تحت وطأة التهديدات الإسرائيلية، لجأوا إلى الشوارع أو افتراش الكورنيش البحري، ما زاد من تدهور أوضاعهم. يعيش هؤلاء في العراء بلا مأوى وبلا طعام أو أدوية كافية، في ظل غياب تام لأي تنظيم أو خطة استجابة شاملة. إذ إن توزيع وجبات الطعام لا يشمل سوى الغداء، ما يترك الأسر بلا إفطار أو عشاء، فيما ينام الأطفال جائعين. “صرنا أسبوع قاعدين بالكورنيش. مناكل وجبة وحدة بالنهار، وما بقى نعرف كيف ندبر حالنا، الأولاد نايمين بلا عشا، وما حدا بيسأل عنهم”
المبادرات المجتمعية: وجه آخر للبنان المشرق
في خضم الأزمات المتتالية التي يمر بها لبنان، تشهد الساحة اللبنانية تحركات إنسانية عفوية بعيدة عن الطائفية والسياسة، حيث يتوحد اللبنانيون للتضامن والمساعدة. بينما توجد الآلاف من منظمات المجتمع المدني المرخصة، فإن اللافت هو بروز مبادرات مجتمعية غير رسمية تتشكل بعفوية لتقديم الإغاثة. هذه المبادرات تمثل شمعة أمل وسط العتمة، وتعبيرًا حقيقيًا عن وعي اللبنانيين بالخطر الذي يحدق ببلادهم. في هذا السياق، تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى أدوات فعالة لجمع التبرعات والدعم، حيث تجاوب معها الآلاف من اللبنانيين سواء المقيمين في لبنان أو المغتربين .المؤثرون الرقميون الذين كانت أدوارهم تُنتقد في السابق بسبب محتوياتهم المثيرة للجدل، أذهلوا الجميع بمبادراتهم الإنسانية التي لاقت تفاعلًا واسعاً. استخدموا تأثيرهم الرقمي واستثمروا في ثقة الناس ومحبتهم لتوجيه المحتوى نحو العمل الإنساني، جمعوا التبرعات وشجعوا الناس على الدعم الإغاثي بشكل لافت.
ولم تتوقف الجهود عند المؤثرين، بل نزل الجميع إلى الميدان، تحولت كل مهنة إلى خدمة إنسانية. من المطاعم التي بدأت في تقديم وجبات مجانية، إلى الفنادق التي فتحت أبوابها للنازحين، إلى الأطباء والممرضين الذين يعملون ليل نهار في الظروف الصعبة لتقديم الرعاية الطبية. ناهيك عن أدوار الدفاع المدني والصليب الأحمر اللبناني، الذين يخاطرون بحياتهم يومياً لإنقاذ الأرواح، ويقفون على الخطوط الأمامية في كل أزمة أو حرب.
هي صورة من صور لبنان الصمود، الذي لا يزال يقاوم رغم الإمكانيات المحدودة. هذه المبادرات المجتمعية تعكس روح التضامن والمحبة، وهي دلالة على أن الأمل لا يزال قائماً بفضل الإرادة القوية للشعب اللبناني الذي يصر على تخطي المحن، مهما كانت الصعوبات.
فوضى التوزيع وغياب التنسيق والعدالة
على الرغم من الوجه المشرق للتضامن الإنساني الذي أظهرته المبادرات المجتمعية، والجهود الجبارة التي تبذلها لتقديم المساعدات، فإن غياب التنسيق الرسمي وعدم وجود قاعدة بيانات مركزية وشاملة توثق احتياجات النازحين وتحدث بانتظام، أدى إلى توزيع غير متوازن وعادل بين النازحين وازدواجية في الخدمات الإغاثية. حيث تتلقى بعض العائلات المساعدات بشكل متكرر، بينما تظل عائلات أخرى دون دعم كافٍ. كما أن ضعف التنسيق بين المبادرات المختلفة يؤدي إلى تأخير وصول المساعدات إلى المناطق الأكثر تضرراً، مما يزيد من المعاناة الإنسانية في تلك المناطق.
بالإضافة إلى ذلك، التواصل المحدود بين المجتمع المدني والدولة يشكل عائقاً إضافياً؛ فالدولة غالباً ما تعتمد على المبادرات المجتمعية لتولي المسؤوليات الميدانية، لكنها في المقابل تفشل في تقديم الدعم اللوجستي أو التنسيقي المطلوب لضمان سلاسة العملية. هذه الفجوة بين الطرفين تؤدي إلى نقص الشفافية في توزيع المساعدات، وتترك العديد من النازحين في مراكز الإيواء يواجهون صعوبات جمة في تلبية احتياجاتهم الأساسية.
كما تساهم الأزمة المتعلقة بالتمويل الدولي في تعزيز فوضى التوزيع؛ إذ إن غياب التمويل المنتظم والمستدام يعمق التباينات بين المناطق ويضعف قدرة الجمعيات على التخطيط بعيد المدى لتلبية احتياجات النازحين. فالتمويل المؤقت أو المشروط بمواقف سياسية يضعف فاعلية توزيع المساعدات، حيث تعتمد بعض المناطق بشكل كامل تقريباً على التمويلات الدولية التي قد تتأخر أو تتوقف بشكل مفاجئ.
هذا التباين بين الوجه التضامني المشرق للمبادرات المجتمعية والفوضى الناتجة عن غياب التنسيق، يبرز الحاجة الملحة إلى إطار تنسيقي موحد يشمل جميع المبادرات والجهات المانحة والجمعيات، بالإضافة إلى اعتماد تكنولوجيا حديثة لتتبع توزيع المساعدات وضمان العدالة في إيصالها إلى جميع الفئات الأكثر تضرراً.
الإبتزاز الدولي والمساعدات المؤجلة
تنتظر الدولة اللبنانية كعادتها، الدعم الدولي لتأمين المساعدات، لكنها تجد نفسها اليوم عالقة في لعبة الابتزاز الدولي. فالمساعدات المالية التي تنتظرها الدولة تخضع لبيروقراطية المؤتمرات الدولية ومواعيد مؤجلة، وسط تعطيل مقصود لتقديم المساعدات حتى يتم اتخاذ قرارات سياسية من الجهات المانحة. هذا التكتيك، يعكس أدوات ضغط الحروب الأسرائيلية الجديدة، فلم يعد الوضع الإنساني للنازحين قضية إغاثية بحتة، بل أصبح ورقة ضغط سياسية بيد الدول المانحة ما يزيد من معانات النازحين ويضاعف التحديات أمام الحكومة اللبنانية ويزيد الضغط على الجمعيات المحلية التي تحاول توفير المساعدة بأقصى طاقتها، لتلبية الحاجات الإنسانية المتفاقمة.
على الصعيد الدولي، دعت فرنسا إلى عقد مؤتمر دولي في باريس في 24 تشرين الأول 2024 لدعم لبنان في مواجهة تداعيات الحرب عليه. يأتي هذا المؤتمر بالتزامن مع مطالبة الحكومة اللبنانية للحصول على دعم يقدر بـ 427 مليون دولار كمساعدات طارئة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن للوضع الإنساني الكارثي في لبنان الإنتظار وسط التعقيدات السياسية والتباطؤ الدولي في التحرك؟