روسيا كدولة حضارة.. بين فكّ الارتباط مع الغرب والاقتراب الحذر من الشرق
ينشر موقع “globalaffairs” الروسي خلاصة الأطروحات الأساسية التي توصّل إليها لقاء الطاولة المستديرة لمجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسية ويتحدث عن الطريق الذي يجب أن تسلكه روسيا في الفترة المقبلة من أجل الوصول إلى اكتساب القيمة الحضارية التي تستحقّها.
وفيما يلي نص الخلاصة كاملاً منقولاً إلى العربية:
خلص لقاء مجلس السياسة الخارجية والدفاع في روسيا إلى أن البلاد دخلت في عملية بحث تاريخية عن طريقها الخاص. من جهة، بدأت تتراجع إلى مسافة آمنة عن الغرب، لكنها من جهة ثانية، لا تسعى جاهدة للاقتراب من الحضارات الشرقية. في الوقت نفسه وضع المجلس رؤيته حول الكيفية التي يمكن لروسيا من خلالها أن تكتسب قيمتها وتفرّدها الثقافي.
في مفهوم السياسة الخارجية لروسيا، الذي نُشر قبل مدة وجيزة، سمّيت روسيا بدولة الحضارة. ويشير إدراج هذا البند إلى رفض المناهج السابقة لصياغة استراتيجية السياسة الخارجية الروسية. فإذا كانت الأولوية السابقة هي أن يصبح المرء جزءاً من “العالم المتحضّر”، للاندماج في بعض المشاريع الكبيرة، فقد اختلف الأمر الآن، وأصبحت روسيا تسعى إلى فرض نفسها بكل الطرق الممكنة، بعد أن أدركت وحدّدت وضعها كدولة حضارة.
إن مصطلح “الحضارة” هو مصطلح طموح يجذب الكثير من الاهتمام، ولكنه في الوقت نفسه غير دقيق، ووصف يصعب تفسيره في سياق التطبيق العملي وليس الفلسفي. السمة الرئيسية للحضارة هي الاكتفاء الذاتي، فلا تحتاج الحضارة، ولا تسعى إلى الاندماج في الأطر التي لم تشارك في إنشائها. إن التشديد على الوضع الحضاري لروسيا في مفهوم السياسة الخارجية هو تحوّل نوعي، ولا سيما بالمقارنة مع موقع الاتحاد السوفياتي وروسيا في الفضاء الدولي منذ أواخر الثمانينيات.
بعد إعلان عقيدة “التفكير الجديد”، سعت روسيا بشكل دائم للدخول إلى مكان ما لإثبات حضورها وأهميتها. أما اليوم، فهي واثقة من أنها لا تحتاج إلى الدخول إلى أي مكان.
مع ذلك، لا تريد روسيا عزل نفسها، بل تريد أن تكون جزءاً لا يتجزأ من العالم الكبير. إن مصطلح “اللامبالاة الحضارية” يعني أن تركّز روسيا على تنمية نفسها، وأن لا تتعارض مع الآخرين. ومع ذلك، لا تزال روسيا غير قادرة على إدراك فكرة اللامبالاة الحضارية – وهي مجموعة من المشاعر المرتبطة بالرغبة القديمة في الغرب منذ قرون.
ربما تكون عبارة ونستون تشرشل بأنه “لا يوجد أصدقاء وأعداء أبديون، هناك فقط مصالح أبدية” أفضل وصف لسلوك الحضارة على الساحة الدولية. الحضارة عادة لا تدخل في تحالفات، ولا تتحمّل التزامات. إن خروج روسيا عن تقاليد السياسة الخارجية السابقة حدث جزئياً بإرادتها، ويرجع ذلك – إلى حد ما – للظروف الخارجية غير المواتية. هناك شيء واحد أصبح واضحاً: إن مناهج السياسة الخارجية القديمة لم تعد قابلة للتطبيق الآن.
“غروب” الغرب ونهاية الـ “رحلة” الأوروبية لروسيا
عندما بدأت عملية توسّع الناتو، رسم الغرب خطاً فاصلاً واضحاً بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، بين الغرب والشرق، حتى لو لم يتحقّق ذلك على الفور. ويجب القول، بأن الاعتراف –المتأخّر – بالحاجة إلى فك الارتباط مع الغرب، شكّل نقطة تحوّل في التطور الأيديولوجي لروسيا.
كما أنّ رحلة روسيا الأوروبية قد انتهت. لقد جلبت لروسيا الكثير من الفوائد، خاصة في القرنين السابع عشر والتاسع عشر. وفي القرن العشرين – المنفعة والضرر، وفي العقود اللاحقة – لا شيء على الإطلاق.
فكّ الارتباط عن الغرب الممنوح لروسيا ليس سهلاً فهو مؤلم إلى حد ما، وهذا ليس مفاجئاً. فقد اعتادت روسيا على اعتبار نفسها قوة أوروبية. ومع ذلك، فإن الانفصال عن “الماضي الغربي” يعد بالعديد من المزايا لروسيا. الروس شعب فريد متعدد الثقافات، وهذه هي أقوى سماته. إن حركة روسيا إلى الغرب والجنوب والشرق جعلتها على ما هي عليه. إن حق تقرير المصير الحضاري لروسيا هو تجريد نفسها من الغرب واكتساب قيمتها الخاصة وتفردها الثقافي. تبحث روسيا عن طريقها الخاص، وتتراجع إلى مسافة آمنة من الغرب، ولا تسعى جاهدة للاقتراب من الحضارة الصينية أو الهندية أو غيرها من الحضارات الشرقية. روسيا بلد أصلي، لكن من المستحيل التأكيد بأن الأساس الحضاري الروسي قد تشكّل بالفعل.
مصادر القوة الداخلية
على مدى 30 عاماً، تم إلقاء روسيا من طرف إلى آخر، من أحضان الغرب إلى أحضان الشرق. لا تعرف روسيا حتى الآن ما تريده بالضبط، ولم تتمّ بعد صياغة أهدافها ورغباتها.
لسوء الحظ، فإن بحث روسيا عن “ذاتها” يحدث أساساً تحت تأثير عوامل خارجية وليست داخلية. تجبر العقوبات الغربية روسيا على اتخاذ إجراءات انتقامية. وهذا بالطبع يدفعها إلى طريق البحث عن هوية.
من المهم أن يضمن اختيار روسيا لمفهوم التنمية الفعّالة للبلد والمجتمع. كانت هناك عدة محاولات لإنشاء نموذج فعال للاقتصاد الروسي، ولكن لا يوجد حتى الآن نموذج اقتصادي ناجح في بلدنا يمكنه ضمان النمو الفعال. وبدلاً من ذلك، لا تبحث روسيا عن نفسها، ولكنها تتصرف بردود فعل استجابة للتحديات والتهديدات الخارجية.
تتطلّب الحضارة الانسجام بين النخب، بين الحكومة والمجتمع. سقط تشكيل مؤسسات روسيا الحديثة في فترة التسعينيات. وللأسف لم تحقّق النتائج المرجوة. يعمل النظام الذي تم إنشاؤه، ولكن ليس من دون عيوب، إذ تم بناء الاقتصاد الروسي بطريقة تجعل الاستثمار نشاطاً غير ربحي.
بالطبع ، يمكن للمرء أن يفخر بالاقتصاد الروسي، الذي صمد أمام نير العقوبات الغربية، لكن الهدف الرئيسي لروسيا اليوم هو إنشاء مثل هذه الآليات السياسية والاقتصادية التي من شأنها أن تسمح لها بالمضي قدماً والتطور.
روسيا – الحضارة وروسيا – الأمة
تتمثّل مهمة روسيا كذلك في إيجاد توازن موثوق بين المكونات الحضارية والقومية لهويتها. في هذه المسألة الحساسة، يجب البحث عن حلول وسط.
على الخريطة السياسية الحديثة للعالم، لا يوجد الكثير من الدول القومية التي تستخدم مصطلح “الحضارة”. فتصورات الولايات المتحدة عن الحضارة الأميركية، على سبيل المثال، تنفي مفهوم الأمة. الحضارات الروسية والهندية والصينية ساهمت جميعها في التراث الثقافي العالمي، لكن لا يوجد في الهند ولا في الصين شغف بمشروع حضاري. إن الهند والصين منخرطان في بناء الأمة ولن يوقفا هذه العملية.
في هذا الصدد، تحتاج روسيا إلى إظهار المرونة وقبول حقيقة أن أفضل استراتيجية في البحث عن وعيها الذاتي هي محاولة الجمع بين القومية والحضارية. عندما يكون هناك حديث عن الاقتصاد الوطني، والمشاريع الوطنية، والأمة المتعافية، يجب أن تعمل جميع الشعوب التي تعيش في روسيا كجبهة موحّدة، وتعلن بصوت عالٍ انتماءها إلى الأمة الروسية. لا ينبغي للحضارة الروسية والأمة الروسية استبعاد بعضهما البعض.
عنصر التقدمية في “الفكرة الروسية”
الحضارة ليست أداة أو برنامجاً، بل هي شيء تشكّل على مدى قرون. ومثل الجني، ظلت لسنوات عديدة محبوسة في زجاجة أغلقتها الوسطية الغربية. اليوم ذهب هذا الغطاء، وبدأت الحضارة الروسية في الظهور. أي حضارة هي حاملة لفكرة عظمى، تقوم على ركائز ثقافية وقيمة معينة وتعتمد على النموذج الاجتماعي والاقتصادي الحالي. وعليه، ليست هناك حاجة لخلق حضارة بشكل مصطنع، فهي موجودة بالفعل.
كما يجب تضمين عنصر التقدمية في “الفكرة الروسية”، الشيء الذي لا غنى عنه. من المستحيل بناء هويتك على أساس التقليدية. أما الحداثة والطروحات الجديدة فدائماً تجتذب.
حضارة الحضارات
إن تعريف روسيا على أنها حضارة دولة ليس نتيجة بحث علمي خاص، بل هو خيار سياسي له مخاطره وعواقبه. هذه رسالة إلى الغرب: عش كما تراه مناسباً، لكن لا تتدخل في حياة الآخرين. تعتقد الحضارة الغربية أن القيم الليبرالية هي القيم الصحيحة الوحيدة، مما يعني أنه يمكن ويجب فرضها على الآخرين.
الصين مثال ساطع. فتايوان جزء من الحضارة الصينية، ولكن بسبب الوضع السياسي المثير للجدل لتايوان، فإن مصالح النظام السياسي هناك تتعارض مع مصالح الحضارة. إن اعتبار روسيا نفسها كدولة حضارة يعني الاستعداد لحقيقة أن جزءاً من أراضيها سيتم اعتباره منطقة حضارة أخرى، على سبيل المثال، الحضارة التركية.
إلى أين تتجه وما الذي يجب تغييره
اليوم، يتم تحديد عمق وطبيعة الشراكات مع بلدان العالم بحسب طبيعة العلاقات معها، سواء كانت ودية أو غير ودية أو محايدة. نظراً لأنّ الاختلاف بين هذه التعريفات ليس واضحاً تماماً، فإن السلك الدبلوماسي الروسي يتمتع بحرية غير مسبوقة في العمل في بناء العلاقات مع هذه الدولة أو تلك. إن مجموعة الأدوات التي يمكن للدبلوماسي استخدامها في عمله واسعة جداً أيضاً: روسيا بلد مفتوح على شكل من أشكال الشراكة.
أما بالنسبة لـ “التحوّل الروسي نحو الشرق” فهو ليس قراراً قسرياً، بل هو قرار محدّد بشكل موضوعي. لكن على من تراهن؟ من سيكون الشريك الواعد أكثر لروسيا؟ الصين؟ أوراسيا؟ إن توجّه روسيا نحو الصين قد يحكم عليها بدور الارتباط ويجعل من مسألة التنمية فيها سبباً للاعتماد والتبعية، أو يحوّلها لتأدية دور دولة ترانزيت. لذا فإن مستقبل روسيا في أوراسيا.
يمكن أن يكون التعاون في قطاع الطاقة أحد نقاط الاتصال بين روسيا ودول الفضاء الأوروآسيوي. تعد آسيا المنطقة الأكثر تلوثاً والأكثر كثافة سكانية في العالم، وبالتالي فهي تواجه مشكلة نقص الطاقة والحاجة إلى التحول إلى مصادر طاقة أكثر اخضراراً. وعليه، باستطاعة روسيا، كدولة ذات كفاءة عالية في استخدام الطاقة وتمتلك احتياطيات كبيرة من الغاز، أن تؤدي دوراً هنا.
وأخيراً، من وجهة نظر القانون، يتم تعريف حضارة الدولة بكلمة “الولاية القضائية”. إن نص مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي فج إلى حد ما، لكنه غني بالصيغ المثيرة للاهتمام والمتناقضة إلى حد ما.
لسوء الحظ، يهرب الجميع حتى الآن من الولاية القضائية الروسية، ويسعون للوصول إلى الاختصاص القضائي الذي حدّدته لندن. وهكذا، فإن جوهر الحضارة الروسية، على ما يبدو، يقع في عاصمة بريطانيا العظمى. ولذلك، وحتى ترغب سواء الشركات الروسية أو الشركات في البلدان الثالثة في العمل وفق القانون الروسي، فإن هذا بالضبط ما يجب أن تسعى جاهدةً من أجله.
نقله إلى العربية: فهيم الصوراني