بطرس البستاني وُلد في قرية الدبية في جبل لبنان عام 1819، وتعلّم العربية وله من العمر 10 سنوات في دير عين ورقة، وتعلّم الانكليزية والسريانية واللاتينية وهو في العشرين، ولأجل ترجمة الكتاب المقدّس إلى العربية لأول مرّة تعلم العبرية والآرامية واليونانية القديمة وكذلك الإيطالية والفرنسية. وكان بطرس البستاني قد اكتشف أنّ اللغة العربية هالكة تماماً ولاحظ تحوّل الناس إلى اللهجة المحكية في الكتابة والقول وهذا أفسد الأخلاق والتعامل المهذّب وأوصل إلى تخلّف العقول. فوضع البستاني أول قاموس عربي – عربي هو “محيط المحيط” في مجلدين لإعادة إحياء اللغة في قالب عصري، ثم قاموس آخر للتعليم هو “قطر المحيط”.
ثم أن البستاني لاحظ اهتمام الأميركان والفرنسيين بإصدار الموسوعات (انسكلوبيديا) بلغة بلادهم الفرنسية والانكليزية، فقّرر أنّه لا بد من وضع موسوعة عربية في عشرين مجلداً. وتوفيّ عام 1883 في مكتبته وهو يعمل على هذه الموسوعة التي صدر منها 11 مجلداً باسم “دائرة المعارف العربية”. وقد بلغ من جودتها في التأليف والمضمونه أنّ أحداً لا يصدّق أنّ رجلاً فرداً هو بطرس البستاني وحده استطاع أن ينجز هذا العمل ويكتبه ويشرف عليه ويراجع كل فقرة فيه.
كما كان بطرس البستاني وطنياً بكل معنى الكلمة ينبذ الطائفية والتطرّف ويدعو إلى الوحدة الوطنية واضعاً في كتاب 22 شرطا للمواطنية وكتاباً عن أهمية حقوق المرأة وتحريرها لأنّها جناح المجتمع الآخر. وطبّق مبادءه كمعلّم مدرسة في قرية عبيه ثم في المدارس الرسمية والأميركية في لبنان وأصدر صحيفة “نفير سورية” في بيروت وجعل شعارها “حب الوطن من الإيمان”، يدعو فيها إلى المعرفة لأنّ المعرفة تنير العقل والعقل المنير يقضي على التعصّب ويحبّذ المثل العليا لكل المواطنين، في كلام وأسلوب لم تسمع بمثله بلاد الشام من قبل.
وعام 1863 أسّس المدرسة الوطنية التي استقبلت الطلاب من كل الطوائف بمُثلٍ وطنيّة خرّجت كثيرين من قادة لبنان وسورية وفلسطين في الأدب والشعر والعلم والسياسية. ثم أصدر صحيفة “الجنان” عام 1870 شارك فيها كتّاب من البلاد العربية. فكان هو والنهضوي ناصيف اليازجي يبعثان لغة عربية وحضارة كادت تندثر.
أهمية عمل بطرس البستاني اليوم
يواجه لبنان وباقي الدول العربية تحديات ثقافية تعيدها إلى عصر الانحطاط. فداخل كل بلد تقريباً تطفو اللهجات المحلية مكان اللغة العربية الأم ويجري طمس الهوية الحضارية العربية من أجل هويات إثنية محلية. وهناك مساعٍ في دول عربية عدّة ومنها تونس ومصر ولبنان لإضعاف حضور اللغة العربية. وسط إدعاءات أنّ اللغة العربية ماتت أو أنّ العرب لا يفهمون بعضهم البعض الخ. وفي لبنان يتم توزيع اللهجات حسب الطوائف والمناطق. ولكن بديهي أنّ أساس أي شعب هو لغة حيّة تنعش ثقافته وازدهاره وإلا لا مكان له تحت الشمس. فيصبح لعمل بطرس البستاني اليوم قيمة كبرى نستعيدها لنواجه التحديات.
بالنسبة لبطرس البستاني، اللغة العربية هي ثقافة وحضارة ينطقها ملايين البشر من أصول عرقية مختلفة. فاللبناني والجزائري والمصري والسوداني والعراقي والسوري يستعملون اللغة العربية في حياتهم اليومية، يكتبونها ويقرأونها ويحكونها دون أن تكون أصولهم بالضرورة من شبه الجزيرة العربية. فاللغة العربية عريقة في القدم، بدأت قبل ثلاثة آلاف عام ثم نمَت بين القرنين الرابع والسابع الميلادي، وأصبحت هي اللغة السائدة في العالم في القرن العاشر: من اسبانيا غرباً إلى أواسط آسيا وجنوب الصحراء الإفريقية الكبرى. وعبر التجارة والسفر ونشر الدين، انتشرت اللغة العربية في آسيا (إندونيسيا وماليزيا وغيرها) وباتت معظم الأعراق والأجناس تنطق بالعربية.
ثم استقرت اللغة في نواتها التي تُعرف اليوم بالمنطقة العربية: الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ووادي النيل وشمال إفريقيا.
ثم دخلت اللغة العربية عصر الانحطاط في زمن الدولة العثمانية التي أهملتها، فكادت تندثر. فالمغرب العربي وقع تحت الاستعمارين الفرنسي والإسباني والجزائر سقطت ضحية الاحتلال الفرنسي الذي فرض فرنَسة متعمدة بدون هوادة، فيما طغت كتابة الدارجة أو العامية في بلدان المشرق. فغاب إشراق العربية الفصحى وتعابيرها المهذبة عن المنطقة العربية وطغت اللهجات المحلية المشوّشة. ومع ذلك بقيت أقلية متعلمة تفهم وتقرأ وتحفظ العربية الكلاسيكية. فالترك العثمانيون حكموا باسم الاسلام، إلا أنّهم لم يحافظوا على اللغة والحضارة العربية ولم يجعلوا عاصمتهم مركزاً علمياً ثقافياً عربياً كما كانت بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وغرناطة.
إلى أن ظهر جيل ببطرس البستاني في أواسط القرن التاسع عشر في لبنان ووُلدت لغة عربية حديثة arabe moderne standardise في بيروت وحلب والقاهرة، حيث انتشرت المطابع ووُضعت القواميس والمعاجم وكتب قواعد اللغة العربية الحديثة. وكان أساس هذه اللغة الحديثة المتجدّدة مزيج من اللهجات المصرية واللبنانية والسورية. وهكذا عادت أنوار الحضارة العربية إلى الإضاءة وبرز أدباء وشعراء في ما سُمي بعصر النهضة، فانتشرت اللغة العربية الحديثة حتى أصبحت لغة المدرسة والجامعة والجرائد والنشرات الرسمية.
وظهور لغة عربية حديثة في القرن التاسع عشر لم يلغِ اللهجات الدارجة حتى بين المتعلمين. ذلك أنّ اللهجات الدارجة سلكت طريقاً آخر غير ما سلكته اللغة العربية الكلاسيكية. إذ حتى مع ولادة اللغة العربية الحديثة، دخلت اللهجة المحكية الاستخدام منذ أواسط القرن العشرين في الراديو والتلفزيون والشعر العامي (الزجل مثلاً) وفي الغناء. إلا أنّ الأفضلية كانت للغة العربية الحديثة المكتوبة. فكل من ذهب إلى المدرسة في الجزائر أو لبنان أو السودان يمكنه أن يخاطب زميله في أي دولة عربية بالعربية الفصحى دون أي صعوبة. وفي نفس الوقت هو يحتفظ بلهجته الدارجة في البيت والحياة اليومية. وهناك ثماني لهجات عربية رئيسية اليوم هي: اللهجة المصرية واللهجة الشامية (سورية ولبنان وفلسطين والأردن)، واللهجة المغاربية (الجزائر، المغرب، تونس، ليبيا، مالطة)، اللهجة الحسنية (موريتانيا)، اللهجة العراقية، اللهجة السوادنية (السودان، مالي وتشاد)، واللهجة الخليجية (السعودية ودول الخليج) واللهجة اليمنية (اليمن وعُمان والصومال وجيبوتي وجزر القمر).
والتلقين المدرسي للّغة العربية الفصحى له قيمة مضافة في أنّ اللهجات الدارجة تقترب منذ نصف قرن (1973-2023) من العربية الفصحى وتتهذّب، ليصبح حديث أهل المدن في مراكش وسيدي بلعباس والبصرة وصنعاء والخرطوم وبنغازي أقرب إلى لهجة المدارس وسهلة الفهم. كما يلاحظ أنّ كل الناطقين بالعربية يفهمون اللهجتين الشامية (اللبنانية والسورية) والمصرية لاقتراب هاتين اللهجتين من اللغة العربية الحديثة.
ورب قائل يقول لماذا يحتفل لبنان بالستاني اليوم وهو في خضم أزمة اقتصادية اجتماعية. فأقول لكم إنّ الثقافة هي التي تُنقذ لبنان من مصائبه لأنّها تجلب معها الأدب وحب الوطن والوعي، وهذه هي شروط عودة الماء والكهرباء.
إذ كيف نقبل أن تتضرّع القبائل لله من أجل هطول المطر ونعتبر ذلك عادياً، ولا نقبل أن نتمسّك بأصالة لبنان وجذوره العلمية والأدبية لكي يكون للبنان دولة مدنية مهذبة ولائقة؟
في ظلام الليل واشتداد الأزمات على هذه الوطن الصغير نتذكّر أبطال النهضة الأدبية والثقافية من لبنان وفي طليعتهم بطرس البستاني وناصيف اليازجي وجرجي زيدان وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومارون عبود وسواهم. وهؤلاء لم يأتوا بالصدفة، بل انطلقوا من لبنان، قلعة صمود العرب ومستقبلهم الحضاري والثقافي بعد قرون من عصور الانحطاط.
على كل ناطقي الضاد والعرب في كل مكان أن يشكروا المعلم بطرس البستاني (1883-2023)، هذا المسيحي اللبناني الذي أحيا اللغة العربية من الضياع بعد 400 سنة مما سميّ “عصر الانحطاط” في الأدب العربي تحت الحكم العثماني. وهو أحد الأدلة على أنّ لبنان كان ولا يزال مشعل العرب لغة وحضارة.
أيها المواطن في السودان وفي العراق والمغرب وموريتانيا وعُمان: عندما تقرأ جريدة أو كتاب أو تستمع إلى نشرة الأخبار، تذكّر فضل بطرس البستاني في وضع مداميك اللغة العربية الجديدة التي تعيشها اليوم.