قبل أيام صودف تزامن واقعتين:
على الحدود اللبنانية السورية، كان نحو مئتين من السوريين المدانين بأحكام قضائية في لبنان، يعودون إليه من سوريا. بعد ساعات قليلة على إبعادهم من قبل السلطات اللبنانية الرسمية، حسب الأصول القانونية الوطنية والدولية. وكانوا يعودون لقاء دفعهم رشوة لشبكات تهريب مرعيّة ومدعومة عبر الحدود، كما تؤكّد السلطات اللبنانية الرسمية.
في العاصمة القبرصية نيقوسيا، كان نحو مئتي مندوب عن كنائس الشرق الأوسط، يختتمون مؤتمرهم المنعقد هناك تحت عنوان: “الكنيسة في الشرق الأوسط – متجذّرة في الأمل”، بالبحث عمّا إذا كان عليهم أن يقولوا صراحة في خلاصاتهم النهائية الداخلية، إنّهم “يبكون مصيرهم”. أم يشطبوا تلك العبارة من نصّهم غير المعلن، ليبقوا على فرح الرجاء.
مشهدان لا علاقة سببيّة بينهما إطلاقاً.
لكنّهما تزامنا. وفي التزامن الكثير من رسائل التاريخ… والجغرافيا.
في مشهد النزوح السوري أوّلاً ثمّة وقائع:
بداية، وبشكل مؤكّد، نحن أمام ضحايا. كلّ سوري نازح أو لاجئ هو ضحيّة. ضحيّة حرب سوريا. وضحيّة نزوحه أينما كان. وضحيّة حسابات متشعّبة في بلاده وخارجها على حساب حياته وكرامته.
وأسوأ ما في كونهم ضحايا أنّهم تحوّلوا جماعة بشرية كاملة، لا أحد يريدها. لا بل الكلّ مصمّم على التخلّص منها وإبعادها عنه:
– أوّلاً حسابات النظام السوري: يُجمع كلّ المتعاطين مع النظام السوري، من حلفاء وأصدقاء قبل الخصوم والأعداء، على أنّه اتّخذ قراره النهائي بمنع عودة أيّ سوري ترك البلاد في الحرب.
يقال إنّ هذا في العمق ما حال دون علاقة علنية بين ميشال عون والأسد طوال ولاية الأوّل الرئاسية. وهو ما عرقل عدّة مشاريع زيارات لباسيل نفسه لدمشق. تمّ جسّ النبض مراراً وتكراراً في أن يعطي النظام حليفه الأقوى مسيحياً هديّة جدّية ما بموضوع النازحين. وتمّ التأكّد بأنّ أقصى ما يقبل به مجرّد مسرحيّات إعلامية عن عودة عشرات إلى سوريا من معبر رسمي، قبل عودتهم المنظّمة بالمئات إلى لبنان من معابر رسمية وتهريبيّة.
لذلك أعلن وزير خارجية باسيل قبل أشهر أنّ “بلادهم لن تطلبهم. هل تطلب دولة من مواطنيها العودة إليها، حين يرفدون الاقتصاد بالعملة الصعبة؟ هؤلاء يرسلون أموالاً إلى بلدهم (…) لذلك وجودهم في الخارج يساعد النظام”.
فضلاً عن الجانب الاقتصادي، يشير معارضو الأسد إلى بُعد سياسي لقرار النظام إبقاء السوريين خارج بلادهم. فهم وسيلة فعّالة جدّاً لبقاء دول النزوح في حالة عدم استقرار. وفي ذلك مصلحة استراتيجية للنظام السوري حاليّاً ومستقبلاً. في المفاوضات والتسويات. تصديرهم إلى الدول المحيطة مثل تصدير الكبتاغون. ورقة بيد النظام. وخصوصاً في لبنان. حيث يقول معارضو الأسد، من سوريين ولبنانيين، إنّهم أكثر أوراق النظام فاعلية لاستعادة دور سوري في لبنان، حين تسمح الظروف بذلك. ولو بعد أعوام.
“المجتمع السوري المتجانس”
يبقى بعدٌ سوري داخلي لتفسير قرار عدم العودة. هو ما كتب عنه معارضو الأسد مطوّلاً. يقولون إنّ الرجل قالها صراحة على اعتبار أنّ الحقائق تُقال في الأزمات حين تطفو عفواً من قعر الوجدان إلى سطح التعبير. فهو نطق علناً بمفهوم “المجتمع السوري المتجانس”. قال إنّ الحرب بكوارثها خلّفت معطى إيجابياً، ألا وهو أنّها أعطته مجتمعاً سوريّاً أكثر تجانساً.
وهو، ودائماً بحسب معارضيه، ذكر الفكرة مرّتين على الأقلّ: في 20 آب 2017 في مؤتمر لوزارة خارجيّته، حين تحدّث عن أنّه نتيجة الحرب “ربحنا مجتمعاً أكثر صحّة وأكثر تجانساً بالمعنى الحقيقي وليس بالمعنى الإنشائي أو بالمجاملات. هذا التجانس هو أساس الوحدة الوطنية، تجانس العقائد، تجانس الأفكار، التقاليد، العادات، المفاهيم، الرؤى، على تنوّعها واختلافها”.
وفي 10 تشرين الأول الماضي حين أكّد أنّ “المجتمع لا يُقاس بالأعداد، ولا يُقاس بالنسب. وإنّما يُقاس بالاندماج وبالتجانس، وينظر إليه ككتلة واحدة، كتلة متجانسة تقدّم منتجاً واحداً”.
يقول معارضو الأسد إنّ هذه حقيقة مأساة النازحين من جهته: هناك 5 أو 6 ملايين إنسان أو أكثر، النظام مستفيد مادّياً من إبعادهم. وغير قادر إطلاقاً على تأمين أساسيات عودتهم وحياتهم واستهلاكهم إذا عادوا. في نظام يعيش على حافة المجاعة أصلاً من دون ملايين إضافية. مع مصلحة بنيوية للنظام بالتخفّف من أعباء ديمغرافيّة سابقة، لصالح ديمغرافية ثابتة نشأت بعد الحرب، وأكثر “تجانساً”…
ماذا يريد منهم الغرب؟
– ثانياً حسابات الغرب: أو بعضه للدقّة. هنا ثمّة عالم آخر يعيش أصلاً أزمة هويّة متحوّلة و”كزينوفوبيا” مستجدّة، بلغ درجة “التشبّع” ( Sursaturation) من موجات المهاجرين. أيّ مهاجرين كانوا. والسوريون منهم. فقرّر أن يردّهم بحراً وبرّاً وجوّاً. تجربة إردوغان الابتزازية زادت من مشكلتهم. صعوبة الاندماج فاقمتها. حرب أوكرانيا وموجة نازحيها “المندمجين بسهولة” كشفت شيئاً من صدام جماعات وتمييزية النازح الأبيض والعينين الزرقاوين… حسابات أوهام الضغط على الأسد، وتخيّلات انتخابات سوريّة بإشراف أمميّ واقتراع النازحين بحرّية… كلّ ذلك وسواه خلص إلى قرار غربي أوروبي برفض استقبال النازحين. لكن أيضاً مع رفض عودتهم إلى سوريا.
فبدأت عملية تمويل النزوح المستدام. وهو ما تقاطع مع مصالح فساد واستفادة من سياسيّي الدول المضيفة والمنظمات المدنية. ومع ضغط أوروبي موسمي وتدريجي للدمج في مواطن النزوح الجديدة. كما جاهرت وثائق رسمية عدّة. وصولاً إلى تلك الإشارة الملتبسة والمريبة في استمارة ألمانية منذ أشهر، عن “حقوق السكن والأرض والملكية” للّاجئين والنازحين في لبنان، من خلال أداة “ملكية الحيازة الاجتماعية”. على الرغم من النفي والتوضيح الأمميّين اللاحقين.
لبنان: 51% غير لبنانيين
– ثالثاً لبنان المنكوب: فبين مصلحة النظام السوري ونظام المصلحة الغربي، هناك هذا المكان السائب المسمّى يوماً لبنان. حيث رواسب تاريخ طويل وعوارض كراهية جماعية نتيجة تجارب وحروب وسياسات نفوذ وهيمنة ووصاية. ما من نازح سوري مسؤول عنها. لكنّه ضحيّتها وموضع إسقاطها وترجمتها.
لكنّ هناك أيضاً أرقاماً ووقائع ضاغطة، وعلى الجميع.
فبمعزل عن تقاعس الجهات الدولية والأممية أو تواطئها في متاهات التسجيل والولادات وضبط الوثائق والقيود وسوى ذلك من قضايا خطيرة وطنياً وإنسانياً، على النازح كما على المضيف… لكن يكفي رقم واحد: في دراسة استطلاعية لجهة بحثيّة، هي بالمناسبة علمانية حتى العظم، تبيّن أنّ المقيمين في لبنان سنة 2021، من عمر يوم واحد حتى عشرة أعوام، موزّعون بين ما يربو قليلاً على 48% من اللبنانيين، في مقابل أكثر من 51% من غير اللبنانيين. وهو ما لا تلحظه الدراسات المستندة إلى أرقام الاقتراع الانتخابية ولا يظهر في لوائح القيد ولا الشطب ولا سواها.
وتشير الدراسة نفسها إلى ثقل القراءة المستقبلية لهذا الرقم: بعد 5 سنوات، المقيمون على الأراضي اللبنانية دون سنّ الـ15 سنة، سيكون أقلّ من 46% منهم لبنانيين. بعد عشر سنوات، المقيمون دون سنّ الـ20 سنة سيكون أقلّ من 44% منهم لبنانيّين… عندها ربّما يكون الأمر قد قُضي!
بحسب هذه الدراسة، تكفي أعوام قليلة. كأنّه تكفي ولاية رئاسية واحدة، مهما كان ثمنها أو تطلّبت تغطية تمريرها إعطاء وعود ورديّة.
في المشهد المسيحي من قبرص، الواقع معاكس، أو مكمّل تماماً. كلام عن أزمات مصيرية: هجرة. تأخّر سنّ الزواج. تراجع نسبة الولادات. استمرار الاضطهاد البنيوي الكامن والخفيّ والمقنّع في كلّ مكان من المنطقة تقريباً. يكفيه عنوان استحالة وجود نظام مدني مواطنيّ عادل متساوٍ للأحوال الشخصية… مع بارقة أمل عنوانها وثيقة الأخوّة الإنسانية الموقّعة بين الفاتيكان والأزهر في الإمارات في 4 شباط 2019، كخطوة أولى في مسار آلاف الأميال…
بين المشهدين، يظهر أنّ كلام ميقاتي قبل أسابيع عن نسبة المقيمين في لبنان من المسيحيين، لم يكن دقيقاً. لكنّه صحيح. إنّها نسبتهم على مجموع المقيمين، من لبنانيين وغير لبنانيين. لا نسبتهم تجاه المسلمين اللبنانيين وحدهم. وهي لذلك أزمة لبنانية شاملة. لا أزمة جماعة لبنانية واحدة بذاتها. فالمسيحيون المقيمون في لبنان اليوم نحو 20% من مجمل المقيمين على الأراضي اللبنانية.
مجموع كلّ المقيمين من لبنانيين وغير كذلك هي نسب السنّة والشيعة المقيمين قياساً إلى مجموع كلّ المقيمين من لبنانيين وغير لبنانيين. وغداً أقلّ وأسوأ.
يبقى السؤال، ما الذي فجّر هذه الأزمة فجأة؟
يُقال أكثر من احتمال:
– أوّلاً أن يكون ذلك عفويّاً. أو على طريقة كفى تعني كفى. وهذا ممكن ومفهوم. نتيجة كلّ الوقائع والظروف الضاغطة على الجميع.
– ثانياً، يزعم البعض أنّ الأزمة مفتعلة للتسويق لقائد الجيش بين واشنطن والغرب. كلام مغلوط بالكامل. بدليل قاطع أنّ السفيرتين الأميركية والفرنسية سارعتا إلى الضغط لصالح النازحين وبكلّ ما لديهما من “وسائل ضغط”. ،
– ثالثاً، أن تكون فبركة غوبلزيّة لتزكية كلام فرنجية عن أنّه قادر على حلّ الأزمة مع الأسد. وهو ما يشكّل مزحة ثقيلة وسمجة. بدليل ما حصل ويحصل في زغرتا نفسها منذ أعوام وحتى اليوم. ولا حاجة إلى مزيد من فتح الذاكرات أو نكء الجراح. فلا فرنجية قادر. ولا الأسد عازم.
بالمحصّلة، إنّها الحرب المستمرّة، بين أطراف الصراع السوري. استخدمت كلّ أسلحة الحروب. الجيوش والمال والعنف والجوع والدين. والآن تستمرّ بالسوري الإنسان الهارب من بلاده، ضحيّة. هذا الشرق البائس، ونتيجة بؤسه وأدات .